الثوابت المصرية فى التعامل مع القضية الفلسطينية راسخة لا تتبدل، ومستقرة لا تتغير، وعلى مدى قرابة 77عامًا هى عمر الصراع العربى الإسرائيلى، تحملت القاهرة ما تنوء بحمله الجبال على كافة المستويات، من أجل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى، والتصدى للمؤامرات الإسرائيلية المتتابعة، ومواجهة المخططات الصهيونية المُتلاحقة؛ لوأْد حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، ورغم أن تل أبيب وحلفاءها الغربيين والأمريكان كل مرة يهيِّئون المشهد، ويجهِّزون المسرح، ويختارون الممثلين لأداء الأدوار الخبيثة، وإسدال الستار على النهاية الماكرة، لكنهم يُفاجأون فى كل مرة بصلابة المصريين شعبًا وقيادة وحكومة، يقفون كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، مع صمود جبار من أصحاب الأرض لإفشال مخطط تصفية القضية الفلسطينية، وإشعال جذوة إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية من جديد، ولن يضيع حق وراءه مُطالب.
«حلُّ الدولتين» مبدأ ثابت، وموقف تاريخى لم تحِدْ عنه الدولة المصرية يومًا رغم تتابع السنوات، وتوالى العقود، وتلاحق الأنظمة، فلا حديث عن إنهاء الصراع، ولا اعتبار لأمن إسرائيل، ولا ضمانة لاستقرار المنطقة كلها دون حصول الفلسطينيين على حقهم المشروع فى إعلان دولتهم المستقلة على أراضى ما قبل يونيو 1967، وفقًا لمقررات الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولى، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا الموقف الحاسم جلب على مصر الكثير من الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، وجعلها على رادار صُناع المؤامرات الصهيونية، بالتنسيق مع رعاة الكيان المحتل غربًا وشرقًا، وهو ما ترجمته سلسلة الحروب التى فُرضت على المصريين سواء فى 1948 خلال أحداث النكبة، ثم العدوان الثلاثى الجبان 1956 وصولًا إلى حرب 1967، ثم نصر أكتوبر العظيم الذى وضع حدًّا فاصلًا للتفوق الإسرائيلى عسكريًّا، وسحق جنودنا البواسل كرامة جيش دولة الاحتلال بالأقدام؛ ليذوقوا وبالَ أمرهم، وينقلبوا على أدبارهم خاسرين، وإنْ عُدتم عُدْنا، وعلى الباغى تدور الدوائر.
محطات التاريخ زاخرة بالأمجاد المصرية فى الدفاع عن القضية الفلسطينية، وحماية حقوق الأشقاء، مع قدرة كبيرة على تجاهل الأباطيل الإسرائيلية من ناحية، على غرار كذبة مجرم الحرب نتنياهو وعصابته المتطرفة، ما يسمونها «إسرائيل الكبرى»، فلا تنشغل القاهرة بتلك الخرافات، ولا تهتم بهذه السخافات، بل تُلقم، سريعًا، كل منْ يردد مثل هذه الأباطيل حجرًا حتى يُغلق فمه، ثم تجدها بلغة الأفعال على الأرض تواصل مسار المفاوضات الجادة مع كل الأطراف المعنية، وتستمر فى المشاورات المعمقة مع جميع الشركاء لوقف العدوان، وتمهيد الأجواء للدخول فى مفاوضات مباشرة لإقرار السلام، ومن ناحية أخرى، دائمًا وأبدًا تترفع مصر عن الصغائر، فلا تُقيم وزنًا للمُزايدين على دورها حتى داخل الفصائل الفلسطينية، ومنْ حذا حذْوَهم من الجماعة الإرهابية، وأفرعها فى العواصم الغربية والعربية، كما يحدث فى قصة المساعدات لأهل غزة، وفى كل مرة يكون الرد بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة، بعرض المشاهد أمام معبر رفح المفتوح على الدوام، وتكدُّس شاحنات المساعدات التى تمر إلى داخل الأراضى الفلسطينية، أو تنتظر دورها، أما منْ يُعرقل فهو سلطات الاحتلال الإسرائيلى، التى تسيطر على الجانب الفلسطينى من المعبر، فضلًا عن التأكيد المتكرر بشأن وجود 5 معابر أخرى إلى غزة، فى حين لا يجرؤ المتنطِّعون على ذكرها.
وقد أثبتت الأيام الصعبة فى حرب غزة على مدى 22 شهرًا أن مصر هى التى أنقذت غزة من تنفيذ مخطط التهجير الحقير، الذى دبرت له بليلٍ ومع سبق الإصرار والترصد حكومة دولة الاحتلال من أجل تصفية القضية الفلسطينية، بل إن الرئيس عبد الفتاح السيسى أول منْ تنبَّه إلى هذه المؤامرة، وحذَّر منها، وهو ما قاله نصًّا فى قمة القاهرة للسلام، بعد أقل من أسبوعين على اندلاع العدوان الإسرائيلى على غزة: «إن العالم يجب ألا يقبل استخدام الضغط الإنسانى؛ للإجبار على التهجير، وقد أكدت مصر وتُجدد التشديد، على الرفض التام، للتهجير القسرى للفلسطينيين، ونزوحهم إلى الأراضي المصرية في سيناء؛ إذ إن ذلك، ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وإنهاء لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وإهدارًا لكفاح الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، بل وجميع الأحرار في العالم، على مدار 75 عامًا، هي عمر القضية الفلسطينية»، وبعدها تابعت الرسائل الرئاسية والتأكيدات المصرية حتى اليوم أن التهجير خط أحمر وظلم لن تُشارك فيه مصر أبدًا، والحل الوحيد والعادل هو إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؛ لأن ما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر هو نتيجة فشل حلّ القضية الفلسطينية من جذورها، وتجاهُل الحلول الجذرية الذى يُفجر الموقف كل عدة سنوات، ولا بد من حتمية التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وضرورة السماح بنفاذ المساعدات الإنسانية؛ لإنهاء الوضع الكارثي فيها.
ويشهد بالدور المصرى فى دعم الأشقاء المحاصرين فى غزة خلال قرابة العامين من الحرب الوحشية القاصى والدَّانى، وها هو شاهد من أهلها ينطق بالحق، ويقول الصدق، وهو د. محمد مصطفى، رئيس وزراء دولة فلسطين الشقيقة سواء خلال استقبال د. مصطفى مدبولى له هذا الأسبوع بالعلمين الجديدة؛ لبحث مستجدات الأوضاع فى الأرض الفلسطينية المحتلة، فقد أشاد بالموقف المصري الداعم للشعب الفلسطينى بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في ظل هذه المرحلة الخطيرة التي تشهدها القضية الفلسطينية، والتأكيد على أن الشعب الفلسطيني سيحفظ هذا الموقف، كما ستتذكره الأجيال القادمة من الشعب الفلسطينى، ولولا هذا الموقف المصرى الصلب والمُعارض للتهجير، لما كنا نتحدث اليوم عن القضية الفلسطينية، وفى لفتة ذكية منه طالب بعدم الالتفات للأصوات المناوئة للدور المصرى تجاه القضية الفلسطينية، ثم تكررت نفس التصريحات، وتواترت نفس القناعات عند زيارته بصحبة وزير الخارجية د. بدر عبد العاطى إلى معبر رفح بتوجيهات من الرئيس السيسى، وهى الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الفلسطيني لمعبر رفح.
تلك الزيارة المهمة الهدف منها الوقوف على الجهود الحثيثة التى تضطلع بها مصر؛ لدعم الاستجابة الإنسانية، والتخفيف من تداعيات الحرب الإسرائيلية الغاشمة على القطاع، وفي ظل ما تقوم به مصر من دور رئيسى في تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للشعب الفلسطيني الشقيق؛، حيث تتجاوز نسبة المساعدات التى وفرتها لأهل غزة 70 فى المائة من إجمالى المساعدات من الدول كافة، بمعدل 550 ألف طن سواء من الغذاء أو الدواء أو غيرها من الاحتياجات، ونجاح مركز الإمداد الغذائى «المطبخ الإنسانى» بالشيخ زويِّد فى توفير المساعدات الغذائية للأشقاء الفلسطينيين بإدخال مليوني رغيف خبز، وما يزيد على نصف مليون وجبة ساخنة، وأكثر من 700 ألف وجبة جافة، مرورًا بزيارة الجرحى الفلسطينيين بمستشفى العريش العام، في إطار ما تبذله القاهرة من جهود فى استقبال آلاف المصابين والجرحى الفلسطينيين ومرافقيهم؛ لتلقي العلاج، وما تم تقديمه من خدمات طبية وتدخلات جراحية للمرضى والجرحى الفلسطينيين.
والأمر المؤكد أن هذه الزيارة وغيرها لكبار المسئولين الدوليين والأممين ومنهم بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا، وألكسندر دي كرو، رئيس وزراء بلجيكا اللذان عقدا مؤتمرًا صحفيًا أمام معبر رفح فى نوفمبر 2023، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش فى مارس 2024، و»لارس راسموسن» وزير خارجية الدنمارك فى سبتمبر 2024، وغيرهم من كبار المسئولين حول العالم والسفراء؛ وصولًا إلى زيارة الرئيس الفرنسى ماكرون بصحبة الرئيس السيسى لمدينة العريش فى أبريل 2025؛ لتفقد الجهود الإنسانية لدعم غزة وزيارة المصابين الفلسطينيين بالمستشفيات فى شمال سيناء، كل هذا ردٌّ عملى على أكاذيب الكيان الصهيونى وحلفائه من جماعة الإخوان الإرهابية حول اتهامات مصر بتعطيل دخول المساعدات.
وحسنًا ما فعله د. بدر عبد العاطى عندما أتاح الفرصة للعديد من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العربية والدولية للتغطية، ونقل صور وفيديوهات الشاحنات المكدسة أمام معبر رفح، والتي تنتظر دخول القطاع فور رفع القيود والعراقيل الإسرائيلية؛ لأن مصر لم تتوقف منذ بداية العدوان الإسرائيلى الغاشم عن العمل على جميع المسارات لوقف إطلاق النار، وحماية المدنيين وضمان تدفق المساعدات، وعلاج المصابين الفلسطينيين بالمستشفيات المصرية، رغم كل التحديات الميدانية واللوجستية، ومعبر رفح لم يُغلق منذ بداية الأزمة، فضلًا عن أن المعبر يواجه في هذه المرحلة ظروفاً استثنائية، بسبب احتلال وتدمير إسرائيل للجانب الفلسطينى 4 مرات متتالية، وتعمل مصر على تهيئة الظروف التي تتيح تدفق المساعدات الإنسانية بكل السُّبل الممكنة، مع ضرورة مواصلة الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار والسماح بالنفاذ الفورى والآمن والمستدام وغير المشروط للمساعدات الإنسانية؛ التى يحتاج إليها سكان القطاع من كافة معابِره بلا استثناء.
والصورة الكاملة أمام معبر رفح خلال الزيارات المتعاقبة التى تنظمها الدولة المصرية لكل المسئولين والوفود الراغبة فى زيارة اصطفاف شاحنات المساعدات المصرية المنتظرة للدخول إلى قطاع غزة، تحمل فى طيَّاتها تصريحًا قويًّا وتلميحًا شديدًا بالدولة القوية، التى تستطيع بجدارة تأمين حدودها على الجبهات كافة والاتجاهات جميعًا، فرغم أن التوتر على بُعد مسافات قريبة؛ إلا أن كل ضيوف مصر مأَمَّنون برًا وجوًّا، فهم يتجولون فى شمال سيناء وبين مدنها من العريش إلى رفح فى أمان، ويتحركون فى دروبها بسلام، ويعقدون المؤتمرات أمام المعبر باطمئنان، فلا خوف ولا رهبة، وبفضل الله، وقوة جيشنا العظيم درع الوطن وسيفه، وحكمة واتزان قيادتنا، ووحدة شعبنا الواعى ستظل حدودنا خطًّا أحمر، ومعبر رفح لن يكون أبدًا منفذاً لتهجير سكان غزة، بل سيظل بوابة للحياة وتوفير المساعدات الإنسانية اللازمة.
الخلاصة، إن المواقف المصرية كانت ولا زالت وستظل صامدة عن طِيب خاطر ورضا نفس؛ حتى حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه التاريخية، وإقامة دولته المستقلة، مهما تعددت التحديات وتنوَّعت العقبات، ولا تراجع مطلقًا عن توصيل المأكل والمشرب للجوعى والعطشى، وقيادة المفاوضات لوقف إطلاق النار وتحقيق اتفاق شامل، مع دعم خطة إعادة الإعمار العربية بصبغة مصرية، وحماية القضية الفلسطينية من كل المؤامرات الصهيونية التى تستهدف العرب جميعًا وليس ابتلاع فلسطين فقط.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء.