فى الوقت الذى يواصل فيه الجيش الروسى تقدمه فى الجبهات الشرقية، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن وقف مؤقت فى تسليم بعض أنظمة الدفاع الجوى الاعتراضية وأسلحة أخرى إلى أوكرانيا، مما سيؤثر بشكل مباشر على قدرة البلاد على صد الهجمات الجوية الروسية المتصاعدة. وهذا التحول الاستراتيجى عمّق من المخاوف الأوكرانية من فقدان الدعم الأمريكى فى وقت حساس للغاية. وفى ظل الجمود السياسى وفشل المفاوضات فى إحلال السلام حتى الآن، تظهر علامات استفهام حول مسار الحرب فى الأيام المقبلة.
أعلنت الولايات المتحدة تعليق إرسال بعض شحنات الأسلحة إلى كييف بسبب تضاؤل المخزون الأمريكى من الأسلحة، وعلى الرغم من أن وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» لم تذكر تفاصيل حول الأسلحة التى تم حجبها، فإنه وفقًا لما أفادت به صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، تعدّ الصواريخ الاعتراضية لأنظمة باتريوت الدفاعية واحدة من الأسلحة المحجوبة، مما يشكّل ضربة قاسية لأوكرانيا التى تتعرض لهجمات روسية جوية واسعة النطاق بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية لا يمكن اعتراضها إلا من خلال صواريخ باتريوت.
وعلى إثر هذا القرار المفاجئ، استدعت وزارة الخارجية الأوكرانية القائم بأعمال السفير الأمريكى فى كييف، جون جينكل، لمناقشة المساعدة العسكرية الأمريكية والتعاون الدفاعي، وحذرت فى بيان أن أى تأخير أو إرجاء فى تسليم الأسلحة يشجع روسيا على مواصلة الهجوم.
ومن جانبها، رحبت موسكو بوقف واشنطن إمداد شحنات أسلحة معينة إلى أوكرانيا، قائلة إنه يعجل من نهاية النزاع. فى حين اعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلايين، أن قرار واشنطن هو رسالة واضحة بضرورة زيادة الاتحاد الأوروبى دعمه لكييف.
فى هذا السياق، أوضح الدكتور سيرجى فاربيوف، أستاذ العلاقات الدولية فى الجامعة الروسية الحكومية والدبلوماسى السابق، فى تصريحات خاصة لـ«المصور»، أن وقف إرسال الأسلحة الأمريكية ليس تعليقًا بالمعنى الحرفي، فتوريد الأسلحة مستمر حتى الآن إلى كييف، لكن حجم التوريدات أقل مقارنةً بما كان عليه سابقًا. ويُعزى ذلك إلى محدودية المخزون الأمريكى المتعلق بالتوريد العسكري، كما أثّرت التطورات الأخيرة فى الشرق الأوسط، وبالأخص الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، على الأسلحة الأمريكية حيث كانت تُرسل إلى تل أبيب بكميات كبيرة.
فيما سلط «فاربيوف» الضوء على سبب آخر وهو سبب آخر هو انتهاء مدة الاتفاقيات السابقة الموقّعة بين إدارة الرئيس السابق جو بايدن وكييف، بينما لم توقّع إدارة ترامب الحالية اتفاقيات جديدة فى مجال التعاون العسكري، وحتى الآن، غير معروف ما إذا كانت واشنطن ستمنح مزيدًا من التوريدات العسكرية أم لا، ولكن ربما يعمل التعليق المؤقت فى التوريدات على إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية بشكل أو بآخر.

وتعدّ هذه هى المرة الثانية التى يتم فيها اتخاذ قرار التعليق. ففى مارس الماضي، أوقف البيت الأبيض لفترة وجيزة جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد اجتماع شهد مشادة كلامية حادة بين ترامب ونظيره الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي. ومنذ ذلك الحين، تضاعفت المؤشرات على أن الشأن الأوكرانى لم يعد من الأولويات الأمريكية، وهو ما انعكس على إطلاق أوكرانيا مؤخرًا برامج مشتركة لإنتاج الأسلحة مع حلفاء أوروبيين مثل بريطانيا والدنمارك والنرويج، وإعلان نيتها فى شراء أسلحة أمريكية بدلًا من تلقيها كمساعدات، فى تغيّر واضح للاستراتيجية الأوكرانية.
وفى سياق متصل، أجرى ترامب مكالمة هاتفية مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين لم تُسفر عن أى تقدم نحو إنهاء الحرب فى أوكرانيا، بعد أن أكد الزعيم الروسى أن موسكو ستواصل المضى قدمًا لتحقيق أهدافها وحل «الأسباب الجذرية» للصراع، وهو ما لا يتنافى مع استعدادها لمواصلة المحادثات، على الرغم من عدم تحديد موعد للجولة التالية، وبعد الاتصال الهاتفى المخيب للآمال، شنّت موسكو هجومًا غير مسبوق، حيث أطلقت 539 طائرة مسيّرة و11 صاروخًا باليستيًا، استهدفت معظمها كييف، فى أعنف هجمات شهدتها الحرب خلال الأشهر القليلة الماضية.
فيما ناقش ترامب، فى محادثة هاتفية بالغة الأهمية مع زيلينسكي، الغارات الجوية الروسية والتطورات على جبهات القتال، واتفقا على تعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية بعد الهجوم الروسي، وتعليقًا على الأوضاع، أوضح «فاربيوف» أن عدم مناقشة الرئيس ترامب مع نظيره الروسى وقف التوريدات العسكرية يدل على غموض فى هذا الموضوع الجوهرى فى العلاقات الروسية - الأمريكية، كما أن الحديث بين الرئيسين ركّز بشكل أساسى على موضوع أوكرانيا وضرورة إحلال السلام فى أقرب وقت ممكن، وهنا من الضرورى الإشارة إلى تأكيد روسيا لموقفها المبدئى المتمثل فى العودة للأسباب الأولية للنزاع العسكرى الروسى - الأوكراني، ومن بينها عدم انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسى «الناتو» وإعلان الحياد الأوكرانى رسميًا وما إلى ذلك.
وأوضح الكاتب الصحفى أندريه أونتيكوف، الخبير فى الشئون الروسية، أن الخطوة الأمريكية بطبيعة الحال مفيدة للجانب الروسى وتعزز من قدراته فى تنفيذ ضربات تستهدف المنشآت العسكرية فى أوكرانيا، وهو ما شهدناه بالفعل عندما شنّ الجيش الروسى ضربات مكثفة على البنى التحتية العسكرية قرب العاصمة كييف، مؤكدًا أنه لولا المساعدات العسكرية الأمريكية والأوروبية لما استمرت هذه العمليات القتالية ليومنا هذا.
وبسؤاله عما يعوق تطور المحادثات بين روسيا وأوكرانيا، أشار إلى أن المشكلة تكمن فى أن المفاوضات بهذه المرحلة تقتصر فقط على الملفات الإنسانية من تبادل الأسرى والجرحى والقتلى، وأن التوصل إلى تفاهم فى المجالين السياسى والعسكرى سيحتاج إلى تغيّرات على ساحة القتال. أما بخصوص أسباب رفض روسيا لوقف إطلاق النار رغم الضغوط الأمريكية، فقد علل «أونتيكوف» ذلك بأن اتخاذ روسيا مثل هذا القرار فى هذه المرحلة سيؤدى إلى حصول أوكرانيا على مزيد من الأسلحة والجنود المدربين من الخارج، مما سيسمح لها باستئناف العملية القتالية بعد انتهاء مدة وقف إطلاق النار.
وأشار إلى أن الهدف الرئيسى الروسى فى هذا السياق هو تشكيل ظروف لا تسمح باستئناف العمليات القتالية بعد ذلك. فيما تجدر الإشارة إلى أن روسيا لا تحتاج إلى وقف إطلاق نار مؤقت، بل إلى سلام دائم، لكى لا تشكل أوكرانيا تهديدًا على أمنها القومى فى المستقبل.