مهلًا، عزيزي القارئ
أود في البداية أن أوضح لك أنني من المؤمنين بدور المرأة الجوهري في المجتمع وبمقولة العظيم توفيق الحكيم إن عقل المرأة إذا ذبل ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها ومات “ غير أن أقداري العائلية والمهنية فرضت علىَّ احتكاكا عميقا بالمجتمعات الغربية، فأكسبتني خبرة في قراءة الحيوات وأنارت ثنايا من عقلي كانت قد تعودت على أفكار جامدة متوارثة عن غير حق وما أدراك ما جمود العقول!.
دعني أشاركك قناعاتي بأن المرأة هي المرأة أينما شاء الله لها أن تولد وإنه لمخطئ من فرق في حكمه بصفة عامة وقاطعة بين المرأة الشرقية والمرأة الغربية بل ودعني أشاركك أيضا اعتقادي الراسخ بأن قوام المرأة الشعوري وتركيبتها الأنثوية متشابهة منذ فجر البشرية، لكن ما يصبغها بلونها الظاهر في المجتمع هي بلا شك مجموعة العوامل البيئية المحيطة بهذه المرأة، وكذلك تباين فكر البيئة المحيطة وكيفية التنشئة المجتمعية التي تتباين بين الشرق والغرب.
الشرق والغرب!
منذ تعليمنا التأسيسي، استسقينا من كتب التاريخ أن هناك ثنائية متوازية قدر لها ألا تلتقي.. ثنائية الشرق والغرب، وكأنه تصنيف للأحداث والمجريات وكأن البشر قد ساروا على الأرض في خطَّين متوازيَين لا يلتقيان.
غير أنه إذا أردنا أن نعلو فوق مستوى الأحداث ونتعمّق في قراءة التاريخ، يبدو لنا بالبراهين العلمية والأسانيد الأكاديمية أن الشرق، بحضاراته المتعددة والمتجددة، كان سبّاقًا في ترسيخ أسس التطور الإنساني، وأن أثره استمر عبر آلاف السنين، أطول بكثير مما عرفته حضارات الغرب، فعلى سبيل المثال، ازدهرت الحضارة المصرية لما يزيد على أربعة آلاف عام، بينما لم تتجاوز الحضارة اليونانية بضعة قرون، تلتها أخرى أقصر عمرًا، كالحضارة الفرنسية..
ومن هذا المنظور، اتخذت شخصية شجرة الدر وماري أنطوانيت كـ”نافذتين” أطلّ منهما على المرأة الشرقية والمرأة الغربية من خلال لحظتين حاسمتين في التاريخ، لحظتين تقاطعت فيهما السلطة مع الأنوثة، وتشابه فيهما المصير رغم تباين الأرض والزمان.
إنهما امرأتان عاشتا في زمنين ومكانين مختلفين تمامًا، اسماهما رنانان في السيرة البشرية، السلطانة «شجرة الدر» التي ولدت في بلاد الشرق حتى لو عجزت الوثائق عن تحديد مكان ولادتها الذي ظل يتأرجح بين خوارزم وأرمينيا إلا أن تاريخ وفاتها معروف للجميع نظراً لدراما قتلها بالقباقيب عام 1257 والملكة ماري التي ولدت في بلاد الغرب وبالتحديد في النمسا عام 1755 أى على بعد خمسة قرون من الزمان من السلطانة..
تربّعت كلٌّ منهما على عرش بلدها في ظل ظروف سياسية واجتماعية متباينة أشد التباين فقد تولت شجرة الدر عرش مصر لمدة ثمانين يومًا بمبايعة من المماليك وأعيان الدولة بعد وفاة السلطان الصالح أيوب، ثم تنازلت عن العرش لزوجها المعز أيبك التركماني عام 1250م بعدما لعبت دورًا تاريخياً مهماً أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر وخلال معركة المنصورة ورغم الكثير من الإنجازات السياسية، غير أن نهايتها جاءت مأساوية حيث جُرّ جسدها خارج القصر، ودُفنت بصمت في ضريح بسيط.
بينما صعدت ماري أنطوانيت للعرش بعدما تزوجت لويس السادس عشر وهي في الرابعة عشرة، لتصبح ملكة فرنسا في سن المراهقة وبعد الكثير من الأحداث الدرامية، تصاعد الغضب الشعبي ضدها، وبدأت الثورة الفرنسية عام 1789 وكانت أيضا نهايتها مأساوية فقد أُلقي القبض عليها، وأُعدمت على المقصلة فى عام 1793 أمام الشعب الثائر في ميدان الكونكورد.
الخيط الرفيع بين الملكة والسلطانة
و للرد على سؤالك عزيزي القارئ
والذي أعرف أنه مازال يداعب خيالك، فإني اصطحبك هنا بين صفحات وثائق التاريخ للنظر بتمُعن، والوقوف علي سبب شغفي بالإمساك بالخيوط الخفية التي غزلت ضفيرة التكوين المتشابه بين شجرة الدر وماري أنطوانيت، وهذا ليس استناداً إلى الشهرة التاريخية ولا في المصير فحسب، بل استند إلى رمزية الدور الذي لعبته كل واحدة منهما في لحظة مفصلية من تاريخ أمتها وأيضاً وفي خصال أنثوية بحتة مثل غواية الأزياء والولع بالمجوهرات وحب الظهور المبالغ فيه كرمز استثنائي لأُمَتِها أكانت ممالك الشرق أو الغرب.
لم تكن شجرة الدر مجرّد امرأة خرجت من أسر الجواري لتجلس على عرش مصر، بل كانت رمزًا استثنائياً في تاريخ الشرق الإسلامي، حيث التقت في أيام توليها العرش، الأنوثة بالسلطة، والدهاء بالحُكم، والجمال بالقوة.
دخلت شجرة الدر التاريخ من أوسع أبوابه، في وقت كان من المحال أن تخرج المرأة فيه من عباءة الحريم إلى منصة الحكم.
ولدت شجرة الدر في أصول مجهولة، يُقال إنها تركية أو أرمينية، وقد اشتراها السلطان الصالح نجم الدين أيوب، فأُعجب بها وحرّرها وتزوجها. وعندما توفي في خضم الحملة الصليبية السابعة، أخفت موته حتى لا تنهار الجبهة الداخلية، وأدارت الدولة بحكمة حديدية. وأنجبت منه ابنها خليل الذي توفي عام 1250م. تولت عرش مصر لمدة ثمانين يومًا بمبايعة من المماليك وأعيان الدولة بعد وفاة السلطان الصالح أيوب، ثم تنازلت عن العرش لزوجها المعز أيبك التركماني في نفس العام، لعبت دورًا تاريخيًا مهماً أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر وخلال معركة المنصورة.
حينها، وقفت بين نيران الفوضى، وأعدّت الجيش، وقادت المقاومة ضد لويس التاسع، وأسرت القوات المصرية الملك الفرنسي في معركة المنصورة، ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية، تُضرب النقود باسم امرأة: «المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين».
علي الجانب الآخر من البحر المتوسط، كان هناك سليلة الحسب والنسب وزوجة ملك فرنسا ماري أنطوانيت 1755 - 1793 م والتي أرادت لها الأقدار أن تخلد كرمز للبذخ الأرستقراطي في عيون الشعب الفرنسي بل وفي عيون العالم وأن يظل اسمها مرتبطاً بالجملة الشهيرة “ إذا ندر الخبز. فليأكلوا البسكويت!” التي قالتها الأسطورة عندما تفاقمت أزمة الخبز وضرب الفقر بقوام الشعب ونفاها التاريخ، غير أن الثورة صدّقتها!.
