خيار صعب وقرار يبدو أصعب، فربما يفقد هذا الشخص عمله بسبب إصابته ببعض الأمراض النفسية أو العقلية، لا سيما تلك التى قد تتطلب تناول عقاقير معينة تُحظر من قِبل اتحاد النقل الجوى الدولى (إياتا).
وبالطبع، ليس من الصعب تخمين سبب تبنّى السلطات مثل هذا النهج الحذر تجاه المرض العقلى بالنسبة للطيارين، وذلك ببساطة لأن المرض العقلى قد يدفع الطيار إلى تبنى ميول انتحارية وتحطيم الطائرة عمدًا. وهنا، ستكون العواقب أعمق من الكوارث الجوية الأخرى، وسيمتد الغضب التنظيمى ليكون أكثر حدة، كما أن اهتمام الإعلام سيكون الأكبر من نوعه.
وربما الحادثة الأكثر شهرة التى تسببت فى هذا الرعب كانت رحلة «جيرمان وينجز» عام 2015، والتى كشف تحقيق أجرته السلطات الفرنسية أن الطائرة تم تحطيمها عمدًا عبر الاصطدام بسفح جبال الألب. ونتج عن ذلك وفاة 150 شخصًا على يد طيار كان قد عُولج من الاكتئاب، وكان يحمل سابقًا شهادة طبية من إدارة الطيران الفيدرالية. ونظرًا لأن مثل هذه الكشوفات نادرة، فمن المحتمل أيضًا أن يكون طيارون آخرون قد تسببوا فى حوادث مماثلة عن عمد.
وردًا على مأساة جيرمان وينجز، كلّفت السيناتور ديان فاينشتاين مكتب المفتش العام فى وزارة النقل بإعداد تقرير، والآن، وبعد ثمانى سنوات، نُشرت نتائج هذا التقرير، والذى جاء فيه: «على الرغم من عملية الاعتماد الشاملة التى تتبعها إدارة الطيران الفيدرالية فى الولايات المتحدة، فإن قدرة الوكالة على تخفيف مخاطر السلامة محدودة بسبب إحجام الطيارين عن الكشف عن حالاتهم الصحية النفسية».
وفى محاولة لتوفير العلاج النفسى اللازم للطيارين ومراقبى الحركة الجوية، والحفاظ على سلامة الطيران، قدم الكونجرس قانون الصحة النفسية فى سبتمبر، وهو تشريع من شأنه تخفيف بعض القيود، مما أثار نقاشًا واسعًا حول أفضل السبل لتطبيق معايير السلامة فى مهنة يكون اتخاذ القرار فيها لحظة فاصلة بين الحياة والموت. كما تطرق دونالد ترامب إلى هذه النقطة عقب اصطدام مروحية «بلاك هوك» بطائرة ركاب فى واشنطن، ما أسفر عن مقتل 67 شخصًا، حيث علّق على معايير إدارة الطيران الفيدرالية قائلًا: «عليك أن تعتمد على الجودة النفسية».
يدور هذا النقاش الآن وسط اضطرابات شديدة تشهدها إدارة الطيران الفيدرالية، فى ظل استقالة مديرها مايكل ويتاكر وتولى مدير بالإنابة منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وفى الشهر الماضي، طردت الإدارة ما يقرب من 400 عامل. وتواجه صناعة الطيران فى الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل نقصًا خطيرًا فى أعداد الموظفين، إذ يعانى أكثر من 90 فى المائة من مرافق مراقبة الحركة الجوية اليوم من نقص العمالة، ووفقًا لبعض التقديرات، فإن الولايات المتحدة قد تعانى من نقص حاد فى أعداد الطيارين يصل إلى 30 ألف طيار خلال السنوات الخمس المقبلة.
وعلى الرغم من أن سلامة الطيران بلغت أعلى مستوياتها، فإن هناك قلقًا متزايدًا من أن حوادث التصادم القريبة فى ازدياد. فبحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عام 2023، سُجّل 300 حادث تصادم قريب لطائرات تجارية خلال 12 شهرًا فقط.
ورغم أن وجود طيار يعانى من مشكلات نفسية أو عقلية يشكل خطرًا، فإن الأخطر منه هو وجود طيارين يعانون من أمراض نفسية دون معالجة أو يتلقون علاجًا خاطئًا. وقد يكون السبب فى بعض تلك الحالات هو ما يمر به الطيارون من ضغوط خلال عملهم، حتى فى أبسط المواقف، مثلما حدث مع الطيار تشيلسى سولينبيرجر عندما اصطدم سرب من الإوز بمحركات طائرته، فاضطر إلى الهبوط على نهر هدسون، منقذًا جميع ركاب الطائرة البالغ عددهم 150 شخصًا. وبالنظر إلى مثل هذه المواقف التى تحبس الأنفاس، نجد أنها بلا شك قد تؤثر على الصحة النفسية للطيارين.
لذلك أصبح على كل طيار ومراقب جوى فى الخطوط الجوية الأمريكية الخضوع لعملية الاعتماد الطبى من قِبل إدارة الطيران الفيدرالية مرة واحدة على الأقل سنويًا. ويتطلب هذا أن يقوم فاحص طبى للطيران، وهو طبيب أكمل دورة تدريبية لمدة أربعة أيام ونصف اليوم مع إدارة الطيران الفيدرالية، بمراجعة التاريخ الطبى للطيار وإجراء فحص بدني. أما الطيارون الذين تبلغ أعمارهم 40 عامًا فأكثر، فيُطلب منهم إجراء هذا الفحص كل ستة أشهر، كما يُطلب ذلك أيضًا ممن يعانون من حالات صحية معينة تتطلب اختبارات إضافية وموافقة من المتخصصين.
لكن الطيارين لديهم نهج خاص يتعلمونه منذ امتهانهم المهنة، وهو أن الصدق مع إدارة الطيران الفيدرالية بشأن حالاتهم الصحية قد يعرض حياتهم المهنية للخطر. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير أجرته إدارة شؤون المحاربين القدامى منذ سنوات أن 4800 طيار تجارى وطيار خطوط جوية كانوا يتلقون إعانات العجز دون الإبلاغ عن مشكلاتهم الطبية إلى إدارة الطيران الفيدرالية. وقد تبيّن أن آخرين لم يبلغوا عن حالات كان ينبغى الإبلاغ عنها لأنها تمنعهم من الطيران. كما وجدت دراسة أُجريت على 202 حادث طيران مميت وقع فى الولايات المتحدة عام 2015 أن 5 فى المائة من الطيارين لم يكشفوا عن التشخيصات أو الأدوية التى تورطت لاحقًا فى الحادث، بما فى ذلك الأدوية النفسية التى تم تناولها بوصفة طبية أو حتى لأغراض ترفيهية.