منذ اللحظة الأولى لافتتاح المهرجان، شعر الحاضرون بأنهم أمام دورة استثنائية بكل المقاييس، والأضواء لم تكن وحدها الحاضرة، بل الطموح والإصرار على تقديم مهرجان يعيد للسينما العربية والعالمية بريقها بعد سنوات من التحولات.
افتتح المهرجان بحفل مبهر كبير، حيث ظهرت النجوم على السجادة الحمراء بابتسامات مشرقة ورسائل إنسانية واضحة، على شاطئ الجونة، لتختلط الأضواء بالنجوم، وتقف الفنانة منة شلبى فى لحظة تشبه المشهد الختامى لفيلم جميل، لحظة امتنان، تفيض بالحب والفخر والدموع، لتنال فى الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائى الدولي، جائزة الإنجاز الإبداعي، تكريمًا لمسيرتها الطويلة التى حملت بصمة من الصدق الفنى والاختيارات الجريئة.
منة شلبى و«الإنجاز الإبداعي»
صعدت النجمة يسرا لتقديم الجائزة للفنانة منى شلبي، وكانت نظراتها مليئة بالفخر، وكأنها أمّ تحتضن ابنتها التى كبرت أمام عينيها، وعندما نادت اسم منة، تعالت الصيحات والتصفيق، ووقف الجمهور احترامًا لتاريخ فنى بدأ منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا، وصعدت منة بخطوات مترددة، تحمل خليطًا من الدهشة والتأثر، وعندما أمسكت الجائزة بيديها، كان أول ما فعلته أن قبّلت يد يسرا أمام الجميع، فى مشهد تلخّص فيه معنى الوفاء والاعتراف بالجميل.
وقالت منة شلبى خلال استلامها تكريمها بصوتٍ يرتجف: «هذه جائزة كبيرة جدًا بالنسبة لى وأشعر أننى ما زلت صغيرة عليها»، ثم تابعت وهى تضحك بخجل «منذ أن كنت صغيرة، كنت بحلم بدعوة مكتوب عليها اسمى بسبب شخصية جسدتها ونجحت فيها بصدق، والفن بالنسبالى ليس مهنة بل إنه حياة كاملة، يجعلنى أفكر، أتعلم، أتعاطف، وأن أكون إنسانة قبل ما أكون ممثلة».
وخلال تصريحات صحفية لها على هامش تكريمها فى الجونة تحدثت «منة» عن تجربتها السينمائية الأولى فى فيلم «الساحر» مع المخرج الراحل رضوان الكاشف، الذى أهدت الجائزة لروحه، قائلة: «هو أول شخص كان يصدق فيا، أول شخص رأى ما بداخلى وأنا نفسى لم أكن أراه، بالإضافة إلى أمى التى علمتنى معنى الكفاح، وكانت دائما تقول لي: خليكى نفسك، حتى لو الدنيا كلها مشيت عكسك».
وعن اختيارات «منة» لأعمالها التى تركت بصمة قالت: «عمرى ما كنت أسعى للانسياق وراء التريند مثل الكثيرين، ولكننى أنجذب إلى الأعمال التى تجعلنى أتعلم شيئًا جديد عن نفسى وعن الأشخاص المحيطين بل أحب أن أجسد الشخصيات التى تشبه المصريين، وأرى أن كل فيلم قمت بالعمل فيه، كنت أخاف منه وكأننى أول مرة أقف أمام كاميرا، بل يمكن أن يكون هذا الخوف ما جعلنى مبدعة، وكل عام أعود إلى الجونة وأنا أحمل شغف الطفلة الأولى التى وقفت أمام الكاميرا، فالمهرجان بالنسبة لى مساحة للحلم والصدق».
أما هند صبرى فقالت: «الجونة ليست مجرد مهرجان، بل مساحة للتأمل فى معنى الفن العربى الحديث، وكيف يمكن للسينما أن تكون جسرًا للتفاهم لا منصة للانقسام».
فى الوقت ذاته، عبّر المهندس نجيب ساويرس مؤسس المهرجان عن فخره قائلاً: «نريد لمهرجان الجونة أن يبقى منبرًا للحرية الفنية، بعيدًا عن الحسابات التجارية أو الأضواء الزائفة. السينما هى صوت الشعوب، ونحن نحاول أن نمنح هذا الصوت منصة تستحقه».
أحمد مالك.. رحلة نجم صغير يؤمن بأن الفن رسالة لا شهرة
فى أجواء من التصفيق والحفاوة، كرّم مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثامنة الفنان أحمد مالك تقديرًا لمسيرته الفنية برغم صغر سنه ومشاركاته الدولية التى أثبتت أن الموهبة الحقيقية لا تحتاج سوى الصدق والعمل الدءوب لتصل إلى العالمية.
تأثر «مالك»، بهذا التكريم الذى وصفه بأنه لحظة ممزوجة بالفخر والخوف فى آن واحد، قائلا: «أنا لست هنا لأننى الأفضل، بل لأننى كنت دائم البحث عن الصدق فى كل دور قدمته، والتكريم الحقيقى هو عندما يصدقك الجمهور، ويشعر أنك واحد منهم، ولم أكن أحلم بالعالمية، بل كنت فقط أحلم أن أتعلم، كل تجربة خارج مصر جعلتنى أعود أكثر إيمانًا بأن الممثل المصرى قادر على المنافسة إذا أُتيح له المناخ الجاد».
كما عبر «مالك» عن امتنانه لمهرجان الجونة، مشددًا على أهمية دعم الأفلام المستقلة والمشروعات الإنسانية، وقال: «الفن يجب أن يظل مرآة الإنسان، لا مرآة الرفاهية، بل نحن بحاجة إلى سينما تتحدث عن الناس، لا تتحدث إليهم من برجٍ عالٍ، وأنا أهدى هذا التكريم لوالدتى التى كانت تؤمن بى قبل أن أؤمن بنفسي، ولكل شاب يحلم أن يسمع صوته يومًا ما».
تكريم الجونة السينمائى للفنان أحمد مالك جاء بعد أيام قليلة من فوزه بجائزة أفضل ممثل عن دوره فى الفيلم الأمريكى «My Father’s Scent» ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان نفسه، ليجمع بين التكريم الرمزى والإنجاز الفنى الحقيقى فى لحظة وصفها النقاد بأنها «تتويج لمسيرة فنان لا يزال فى بداياته، لكنها مشبعة بالنضج والمسئولية».
جوائز تعانق القضايا وتكشف ملامح جيل جديد
من المبدعين
وعلى مدار ثمانية أيام من العروض والنقاشات، احتفى المهرجان بأفلام تمسّ الإنسان فى جوهره، وتخاطب وجدانه قبل عينيه، منذ افتتاح المهرجان، بدا واضحًا أن اللجنة المنظمة قررت أن تكون هذه الدورة مختلفة، حيث إن الأفلام المشاركة لم تسعَ وراء الأضواء أو البهرجة، بل قدّمت قصصًا عميقة عن الحرية، والهوية، والبحث عن الذات، وفى ليلة الختام، جاء توزيع الجوائز ليؤكد أن مهرجان الجونة أصبح مساحة تُكرّم الصدق الإنسانى قبل البريق التجاري.
فاز الفيلم الكولومبى «Poet» للمخرج سيمون ميسا سوتو بجائزة النجم الذهبى لأفضل فيلم روائى طويل، وهو الفيلم، الذى أثار إعجاب لجنة التحكيم، يُقدّم حكاية شاعر يحاول النجاة بالكلمة وسط عالم صاخب، وفى كلمته بعد الفوز، قال ميسا سوتو: «هذا الفيلم ليس عن بطل واحد، بل عن مجتمع بأكمله يحاول أن يتحدث من خلال الشعر والصمت، كانت كلمات المخرج كافية؛ لتلخّص روح الفيلم ورسالة المهرجان معًا بأن الفن صوت منْ لا صوت له».
«من أين يأتى الريح» أفضل فيلم عربى روائي
أما جائزة أفضل فيلم عربى روائى طويل فذهبت إلى الفيلم التونسى «من أين يأتى الريح _Where the Wind Comes From» للمخرجة آمال قلاتي، الذى رسم لوحة بصرية ساحرة عن الشباب التونسى الباحث عن ذاته بين جذور الوطن وحلم الهجرة، وقالت «قلاتي» خلال كلمتها المؤثرة على المسرح: «رحلتنا مع الفيلم كانت مثل رحلتنا فى الحياة، نغادر الشاطئ لنجد أنفسنا فى الطريق».
أحمد مالك.. فوز مصرى يكتب سطرًا جديدًا
فى واحدة من أكثر لحظات الحفل دفئًا، أعلن فوز النجم أحمد مالك بجائزة أفضل ممثل عن دوره فى فيلم «My Father’s Scent»، ليصبح أول مصرى يفوز بهذه الجائزة فى تاريخ المهرجان، وعلى خشبة المسرح، وقف مالك متأثرًا وقال: «أهدى هذه الجائزة لكل من يؤمن بأن الفن فى مصر ما زال قادرًا على أن يصل للعالمية، وهذه الجائزة ليست لى وحدي»
أداء «مالك» فى الفيلم نال إعجاب النقاد لما حمله من صدق وهدوء، وهو ما يعكس نضجًا فنيًا جديدًا لجيل الشباب فى السينما المصرية.
ليا دروكر.. واقعية الأداء الفرنسي
جائزة أفضل ممثلة ذهبت إلى الفرنسية ليا دروكر عن دورها فى فيلم «For Adam» للمخرجة لورا واندل، حيث قدّمت أداءً صادقًا يمزج بين الألم والحنان، وأشادت لجنة التحكيم بـ«عمق الأداء وقدرته على نقل الانفعال الإنسانى دون مبالغة أو صراخ»، وفى كلمتها القصيرة بعد الفوز، قالت الفرنسية دروكر: «لم أؤدِّ شخصية آدم، بل حاولت أن أكون أمًّا لكل طفل يشعر بالوحدة».
«دائمًا» و«الحياة بعد سهام» يرفعان راية الوثائقي
فى فئة الأفلام الوثائقية، فاز الفيلم الصينى «دائما _ Always» للمخرجة ديمينغ تشين بجائزة النجم الذهبى لأفضل وثائقي، بعدما أثّر فى الجمهور برؤية بصرية هادئة وقوة فى الطرح، أما جائزة أفضل فيلم وثائقى عربى فذهبت إلى الفيلم المصري-الفرنسى «الحياة بعد سهام_ Life After Siham» للمخرج نامير عبد المسيح، الذى أعاد من خلاله كتابة ذاكرة عائلية امتدت لسبعين عامًا.
وقال «عبد المسيح» بعد تسلّمه الجائزة: «أردت أن أوصل قصة والدى لأطفالي، ربما بهذا أستطيع أن أُصلح ما أفسدته المسافات»، وكانت كلماته بمثابة تلخيصٍ لفكرة الفيلم الوثائقى الحقيقي، بأنه ليس سردًا للذكريات، بل إعادة إنعاشٍ للروح عبر الصورة.
جائزة الفيلم القصير عربياً من لبنان مناصفة
مع الفيلم الفلبيني
أما جائزة أفضل فيلم قصير عربى فذهبت إلى الفيلم اللبنانى «The Devil and the Bicycle» للمخرجة شارون حكيم، فيما نال الفيلم الفلبينى «Agapito» الجائزة الذهبية لأفضل فيلم قصير، وهذه الفئة أكدت أن القصة الصغيرة، حين تُروى بإحساس، يمكن أن تفتح آفاقًا واسعة أمام المشاهد.
ما وراء الجوائز.. الإنسان فى قلب الكادر
وفى هذا السياق، قال الناقد الفنى طارق الشناوي، إن «ما يميّز مهرجان الجونة هذا العام ليس فقط أسماء الفائزين، بل الفلسفة التى تحكم اختياراته، فالسينما التى تُكرّم هنا ليست سينما البهرجة أو الخيال الفارغ، بل السينما التى تسأل وتبحث وتؤلم وتُضيء».
وقال أحد أعضاء لجنة تحكيم الجوائز فى كلمته الختامية: الفيلم الذى يتركنا نفكر أكثر مما يجيب، هو الفيلم الذى يستحق الجائزة، ومن كولومبيا إلى تونس، ومن مصر إلى فرنسا والصين، اجتمعت الأفلام على هدف واحد هو أن يكون الإنسان هو البطل الحقيقي، مهما تغيّرت اللغات واللهجات.
اختُتمت فعاليات الدورة الثامنة بإجمالى جوائز بلغت قيمتها 224 ألف دولار، لتؤكد إدارة المهرجان أن دعم الإبداع هو الاستثمار الحقيقى فى مستقبل السينما، وفى نهاية الليلة، أعلن المنظمون عن موعد الدورة التاسعة، مؤكدين أن المهرجان سيواصل رسالته كمنصة حرة للسينما الإنسانية المعاصرة.