رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الملك «توت عنخ آمون» علـــى العـــرش


31-10-2025 | 17:59

.

طباعة
أعدت الملف: أمانى عبد الحميد

فى كل حضارة نقطة ضوء. وفى حضارة مصر القديمة، تتكثّف الأضواء وتتماهى الأزمنة فى لحظة واحدة ، عندما يخرج إلى النهار الملك الفتى «توت عنخ آمون» كى يجلس على عرشه من جديد. بعد رحلة طويلة من العزلة داخل مقبرة صغيرة فى وادى الملوك، ثم انتقال مقتنياته إلى المتحف المصرى بالتحرير. وها هو اليوم يتهيأ ليضع بصمة جديدة فى الذاكرة الإنسانية داخل أكبر قاعة مخصصة لملك واحد فى العالم القديم.

 
 

تلك قصة جديدة من قصص المشروع العملاق الذى ظل لأكثر من عقدين حلماً عصياً على التحقّق. تفاصيلها تدور حول كيف أصبح عنواناً لإرادة مصر القوية التى شقت طريقها كى تخرج إلى النهار والنور. وتغزل حكاية معمارية تستوعب قصة مصر القديمة عبر آلاف السنين وتضعها عند سفح أهرامات ملوكها فوق هضبة الجيزة.

فصول تلك القصة بدأت فى صباح من شتاء عام 1922 عندما انحنى البريطانى هيوارد كارتر أمام مدخل صغير لمقبرة فى وادى الملوك. نفخ غبار الدهور بيده. وأشعل شمعة داخل الفتحة. وعندما سُئل: “هل ترى شيئًا..؟”. أجابهم همسا: “أشياء رائعة..”. لم يكن يدرى أن تلك الأشياء الرائعة ستنتظر قرناً بأكمله حتى تنتقل إلى متحفٍ صُمم خصيصا ليليق بها. يستعرض كل قطعة منها بافتخار كى تخرج من الظل إلى الضوء. والآن، وبعد أكثر من مائة عام. ها هى كنوز الملك الصغير”توت عنخ آمون” تصل إلى حيث ينبغى أن تكون. داخل المتحف المصرى الكبير الذى لا يشبه سواه.

واليوم لم يبق سوى ليلة واحدة قبل أن يفتح أبوابه ويكشف عما يحويه من كنوز داخل قاعاته. انتهت أنامل البناء ووضعت اللمسات الأخيرة وباتت أركانه متألقة. سنتمكن من صعود الدرج الملكى حتى نصل إلى قاعة الملك “توت عنخ آمون” المتسعة، لتأخذنا مهابة الملك الصغير بعد أن عاد من الموت ليجلس على عرش مصر القديمة مرة أخرى. سنتمكن من تأمل وجهه الملكى البادى على قناعه الذهبى الفريد الذى منحه ملامح الخلود. وفيه امتزج الذهب اللامع بالحجر الكريم، وتداخل الإتقان الفنى مع قداسة المعتقد. وأمامه نشعر أن ما نراه ليس مجرد قطعة أثرية بل هو ملك يستعيد حضوره من أعماق الزمن. سيكون القناع الملكى فى موضع القلب بالنسبة لسيناريو العرض المتحفى. بل يمثل ذروته. لن يكون معزولاً عن صاحبه. بل سيكون بمثابة بطاقة هوية ذهبية للملك. وجزء من قصة متكاملة. كل قطعة ستكون فى سياقها. متراصة كى يفهم منه الزائر كيف عاش الملك، وكيف أُعد نفسه للحياة ما بعد الموت وما بعد البعث دون الحاجة إلى وسيط. وعندها يشعر أنه عاد إلى أبعد من عام 1323 قبل الميلاد.

قد تكون شهرة الملك الشاب توت عنخ آمون أكبر من سنوات حكمه القصيرة. لكنها لم تأت من فراغ. فعندما اكتشف “كارتر” مقبرته كانت محتوياتها سليمة تقريباً. أكثر من خمسة آلاف قطعة من الذهب والخشب المطعّم والأوانى الحجرية والأسرة الجنائزية والعربات الملكية والأقنعة ، وأهمها القناع الذهبى الذى أصبح رمزاً لمصر القديمة. وعلى مدار قرن كامل. لم يتم عرض تلك الكنوز بشكل كامل. كانت موزعة بين متاحف وقاعات تخزينية ومواقع ترميم. حتى جاء المتحف المصرى الكبير، وقرر أن يمنح الملك الشاب ما لم تمنحه له الحياة. خصص له مكاناً يليق به، وعرضاً يرويه، وسردية تجمع ملامح عهده، لا لتبكى على قِصره، بل لتحتفل بفرادته.

حيث يقوم العرض المتحفى بالأساس وللمرة الأولى، على إعادة تقديم المجموعة الكاملة لمقتنيات الملك وفق سيناريو بصرى ومتحفى متفرد. يشرح وظيفتها، ويعيد ترتيبها زمنيا وشخصيا. مما يثير دهشة الزائر مما يراه. فهل مقتنيات الملك هى مقتنيات جنائزية، أم مرآة لما كانت عليه الحياة الملكية فى مصر القديمة.

هنا ، يبدو العرض محكوما بفلسفة تقوم على تحويل الزائر من مجرد متفرج يعبر القاعات إلى متفاعل ومشارك فى النص البصرى. وليس جناح الملك توت عنخ آمون إلا تتويجا لفلسفة العرض المتحفى. حيث يعتلى عرش ملكه من جديد كرمز يُلخّص جمال الحضارة المصرية، وعبقريتها البصرية، وخلودها. والجميل أنه يتعامل مع الملك الذهبى على اعتباره لايزال حيا. فمصر، التى أنجبت الملك، لم تنسَ أن تعيده إلى موضعه الطبيعى فى صدارة الخلود.

كما أن العرض المتحفى لا يعتمد على التصنيف الزمنى فقط، بل يقوم على السرد الموضوعى أيضا. تبدأ الزيارة مع بداية الحكاية. من قصة الإنسان فى مصر القديمة، الدين، الحياة اليومية، الحكم، الجيش، المرأة، الفن، الموت، وما بعد الموت. كلها قصص تستدرج الزائر كى يدخل عالم الملك “توت عنخ آمون”. حيث تحاكى مسارات الزيارة داخلها لحظة الاكتشاف الأولى. بداية من غرفة الدفن ثم الانتقال إلى غرفة الكنوز وبعدها إلى غرفة الأثاث التى تقود إلى غرفة الأسلحة والعربات. وذلك فى مسارات تشبه إلى حد كبير المشاهد السينمائية. وكأننا أمام عرض متحفى يروى التاريخ للمرة الأولى.

ومن الجميل أن فلسفة العرض تعتمد على استخدام التكنولوجيا بشكل فعال. فكل شاشة تفاعلية، وكل نموذج مجسم، وكل صوت خافت، تم توظيفه لشرح شيء لا تراه العين فقط، بل تفهمه الذاكرة. على سبيل المثال يستطيع الزائر أن يرى نسخة رقمية ثلاثية الأبعاد لمقبرة الملك توت عنخ آمون ويستطيع أن يتنقل داخلها كما تنقّل من قبله مكتشفها “كارتر”. أو أن يقارن بين حالة القطعة الأثرية وقت اكتشافها، وما أصبحت عليه الآن. كما أن الإضاءة ليست عامة، بل موجهة كأنها تقول لك: انظر هنا، لا هناك.

رحلة كنوز الملك “توت عنخ آمون” ليست كغيرها من رحلات نقل الآثار. استغرقت أكثر من مائة عام قد تصل إلى مستقرها الذى يليق بها. بدأت من وادى الملوك بالبر الغربى لمدينة الأقصر. ثم قضت سنوات طويلة معروضة داخل عدد من قاعات المتحف المصرى. أغلبها مخزن داخل أقبية بدروم المتحف القديم. لكنها خاضت رحلة استثنائية منذ عام 2017. حيث بدأت عمليات نقل المقتنيات من المتحف المصرى بالتحرير ضمن خطة شديدة الدقة. شارك فيها خبراء مصريون وفريق دولى متخصص فى ترميم الآثار والنقل الفنى الدقيق. أكثر من 5 آلاف قطعة. بعضها بالغ الهشاشة والرقة. تحركت واحدة تلو الأخرى داخل صناديق مقاومة للاهتزاز ومزودة بأجهزة لمراقبة الحرارة والرطوبة تحت إشراف أمنى وعلمى غير مسبوق. فالقطع كانت تخضع لعمليات تفكيك ثم معالجة ثم تسجيلها رقمياً ثم تركيبها مرة أخرى. كانت كل قطعة تخضع للفحص والدراسة والترميم وكأنها مريض فى غرفة عمليات دقيقة.

وبعد سنوات من العمل المضنى نجح مرممو المتحف والأثريون فى نقل وإعادة تركيب مقتنيات الملك “توت عنخ آمون” داخل الفاترينات المخصصة لها. من التوابيت، المقاصير، الأسرة، الحلى، وغيرها من مقتنياته التى كانت مهددة بالتهشم فى حالة نقلها من موقعها. أدوا المهمة بكفاءة غير مسبوقة. وباتت كل قطعة مستقرة وفق أحدث طرق العرض المتحفى بالقاعات المخصصة لعرض كنوز الملك والتى تبلغ مساحتها حوالى 7200 متر مربع والمزودة بأحدث وسائل العرض المتحفى من فتارين ذات تحكم بيئى فى درجات الحرارة والرطوبة والإضاءة. بالإضافة إلى وسائل توضيحية من الجرافيك وبطاقات شرح خاصة بكل قطعة. وكذلك شاشات عرض توضح سيناريو العرض الخاص بالملك الشاب.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة