رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

من «العماليق» إلى «إسرائيل الكبرى» .. تاريخ من «الأكاذيب»


22-8-2025 | 14:26

.

طباعة
تقرير: دعاء رفعت

«يجب أن تتذكروا ما فعله بكم العماليق، يقول لنا كتابنا المقدّس، ونحن نتذكر»، جملة بدأ بها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، حرب الإبادة الجماعية ليُلبس الحرب على غزة ثوبًا توراتيًا يعيد استدعاء واحدة من أكثر القصص دموية فى العهد القديم: قصة العَمَالِيق التى وردت فى سفر التثنية وسفر صموئيل الأول، حيث جاء الأمر بمحوهم إبادة كاملة، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وحتى مواشيهم.

 
 

استدعاء «نتنياهو» لهذه القصة لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل مؤشر على توظيف الدين فى شرعنة العنف وإضفاء بُعد «مقدّس» على الحرب، يتجاوز منطق الأمن والسياسة إلى منطق الصراع العقائدي، وبات يعمل على تعبئة الداخل الإسرائيلى واليمين المتشدد عبر رموز توراتية قوية، ففى خطاب صار مروجًا داخل الأوساط الدينية والإعلامية، خاطب الجنود بقصة العماليق، التى وردت بالسفر الأول لصموئيل الذى يحث على إبادة العَمَاليق، ما يجعل العبارة ذات وزن تأريخى ورمزى، يثير قلق قطاعات كبيرة من المجتمع والأوساط الحقوقية والعالمية.

هذا التحول فى الخطاب من لغة الأمن القومى إلى لغة الحرب المقدسة يعكس نزعة أعمق داخل التيارات القومية - الدينية فى إسرائيل، التى ترى فى النصوص التوراتية مرجعية سياسية ومشروعية للتوسع. وفى هذا السياق، عاد نتنياهو ليُعلن فكرة «إسرائيل الكبرى»، الحلم الذى يستند إلى خريطة «أرض الميعاد» كما وردت فى التوراة، وهو تصور لطالما روّج له قادة من حزب الليكود ورموز الصهيونية الدينية مثل بتسلئيل سموتريتش، ممن يرون أن حدود الدولة لا تقف عند الضفة الغربية، بل قد تمتد إلى الأردن وما وراءه.

إذن، لا يقتصر خطاب «نتنياهو» على تحفيز الداخل الإسرائيلى دينيًا، بل يُعيد صياغة الصراع باعتباره مواجهة وجودية مقدسة، ما يفتح الباب أمام تحويل العنف إلى ممارسة مُشرعنة باسم «الحق التاريخى والديني»، وهو ما يثير مخاوف متصاعدة من انزلاق الصراع إلى بُعد عقائدى خطير يتجاوز السياسة التقليدية.

وفى حديثه لـ«المصوّر»، أوضح الدكتور منير محمود، أستاذ اللغة العبرية والمتخصص بالشئون الإسرائيلية، أن «نتنياهو شخصية براجماتية، وبنفس الوقت يفهم جيدًا العقدة اليهودية الموجودة بالشخصية اليهودية، سواء لدى اليهود فى جميع أنحاء العالم بصفة عامة، واليهود فى إسرائيل بصفة خاصة، ويعرف كيفية العزف على أوتار تلك العقدة والوقت المناسب، وأكبر دليل على ذلك تواجده بالحكم لما يقرب من عشرين عامًا.

«د. منير»، أشار إلى أن «مشكلة المشهد السياسى فى إسرائيل ليس ما يعرف بالمستوطنين المتشددين أو التابعين للفكر الدينى التلمودى أو الصهيوني، إلا أن المشكلة هى تلك النسبة التى تتعدى نسبة 50 فى المائة والذى يمكننا تسميتهم بـ«حزب الكنبة»، وهم هؤلاء الذين يعبرون عن آرائهم فقط من خلال السوشيال ميديا، ولكن وقت الحسم على سبيل المثال خلال الانتخابات العامة يجلسون فى بيوتهم ينتظرون النتائج. وبينما تتراوح نسبة تصويتهم من 30 - 40 فى المائة، تصل نسبة اليهود المتشددين إلى 100 فى المائة. وهذه هى الفكرة التى لعب عليها نتنياهو، رفع الفئة المتشددة إلى القمة حتى وصلت إلى البرلمان، بل وشكّل منها ائتلافا حكوميا».

وكشف «محمود»، أن «استخدام النصوص الدينية والقصص التوراتية يعطى زخما لأى أعمال-بدت من 30 عامًا- متطرفة، وأصبحت الآن واقعا مثل التوغل الاستيطانى ومصادرة الأراضى، وعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين وكافة سياسات الاحتلال بالضفة الغربية، وبعد أحداث السابع من أكتوبر وجد نتنياهو المبرر لتنفيذ جميع الأفكار التى يقوم بزرعها وتوطيدها من قِبل المستوطنين وائتلافه المقدس الذى يضفى عليه قدسية زائفة بخطاباته الدينية وإجبار الدولة على الانصياع للمشاريع والخطط الاستيطانية، وهذه خطابات شعبوية يهدف من خلالها إعطاء الزخم الدائم للائتلاف المتطرف لكى يستمر فى مشاريعه التوسعية حتى الوصول إلى ما يُعرف بـ«إسرائيل الكبرى» وهذا النهج كان موجودًا، لكن على فترات متقطعة، وليس كسياسة عامة لدى تقريبا جميع قادة إسرائيل، سواء من حزب الليكود أو العمل أو ما قبلهما، فكانت جميع خطاباتهم تخلو من هذا النهج التوراتى للقصص والنصوص التوراتية، إلا أنه لم يكن نهجًا لأى رئيس وزراء، فكانت تقتصر استخداماته لدى الضرورة أو عند بدء عدوان على الأراضى بالضفة أو لبنان.

كذلك، أكد «د. منير»، أن فكرة «إسرائيل الكبرى» ترتبط بالفكر الدينى الصهيونى المتطرف، وبالطبع ترتبط بالسياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة، فالحلم يبدأ بالسيطرة الكاملة على الأراضى التى تم احتلالها عام 1967، وهذه هى الخطوة الأولى وهى التى ستمهد للتوسع خارج نطاق الخط الأخضر وهذا الخطاب الدينى وإسرائيل الكبرى، أصبح نهجًا فى الفكر السياسي، قائلًا: «دون أن نطرح فكرة استبدال الفكر السياسى بالفكر الديني، هذه أيديولوجية موجودة لدى فئة من الإسرائيليين، وهى فكرة يؤمن بها عدد من اليهود، سواء خارج إسرائيل أو داخلها، ولكن الخطاب الدينى حول إسرائيل الكبرى أصبح تدريجيًا خطابا يعبر عن السياسة الإسرائيلية لابتلاع الأرض لضم الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالى فإن دمج الرواية الدينية اليوم سيعول عليه فى المستقبل لضم المزيد من الأراضى كما فى سوريا، وقد وضعوا قدمهم بالجنوب اللبنانى بالفعل، وغير تلك الأجزاء فى لبنان».

وأضاف: الحلم الأكبر الذى سيظل يراود نتنياهو والعصابة التى تحكم الكيان الإسرائيلى وهى أرض سيناء، حيث لن يكتمل الحلم سوى بأهم قطعة أرض خارج الكيان وهى أرض سيناء، استنادًا إلى فكرة -وضعت باليد فى الكتب المقدسة- بأن تلك الأرض هى مهد التوراة وأرض الخروج، وستظل الفكرة تراودهم، وستظل مصر واقفة أمامهم. وفى تحليلى من اليوم فصاعدًا، ستكون حرب استنزاف على المستوى البعيد بين مصر وإسرائيل، ومَن ستكون له الغلبة على المستوى الثقافى والأيديولوجى بمنطقة الشرق الأوسط. فبينما يحاول التكتل التركى - الإسرائيلى الهيمنة على المنطقة، تظل مصر صامدة وثابتة».

بدوره، كشف الدكتور أشرف الشرقاوى، أستاذ اللغة العبرية والشئون الإسرائيلية، أنه بالرجوع إلى كتاب نتنياهو «إعادة إنتاج المشروع الصهيونى ضمن منظومة صراع الحضارات» سندرك أن نتنياهو استطاع، من خلال رصده الذكى للمتغيرات فى العالم، أن يدرك حالة الضعف والوهن التى يمر بها العالم العربى فى مواجهة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ليسعى إلى تولى دور يعتبره تاريخيًا فى توسع الدولة الصهيونية. فيما يدرك نتنياهو أن السبيل إلى تمكينه من تنفيذ وجهة نظره -سواء على المستوى المحلى أو على المستوى الدولى- يرتبط بارتداء عباءة الدين، التى ستتيح له فى الداخل التفاف أغلبية الإسرائيليين اليهود حوله، حتى العلمانيين منهم، كما ستتيح له فى الخارج تجنيد المبدأ الدينى الذى تمكنت الصهيونية من استحداثه والزج به فى الفكر الأمريكى والزعم بأنه جزء من الكتاب المقدس، وهو مبدأ أن «من لا يؤيد إسرائيل فهو ملعون»، وقد جند نتنياهو هذا المبدأ ليبتز الساسة الأمريكيين، حتى العلمانيين منهم، ليسيروا خلف ما تريده إسرائيل كالنعاج، حتى إن بعضهم عندما تسأله: أين ورد هذا فى الكتاب المقدس؟ يكون رده أن عبء البحث يقع عليك أنت. بينما هذا المبدأ لا علاقة له بالكتاب المقدس على الإطلاق، وإنما هو اختراع من الحركة الصهيونية فى القرن العشرين.

«الشرقاوى»، لفت إلى أن الدوافع السياسية لـ«نتنياهو» واضحة؛ أهمها دافع البقاء السياسى، ولكن لا يقل خطورة ولا أهمية عن ذلك إحساسه بأنه شخصية تاريخية وُجدت للارتقاء بالشعب اليهودي. وهو مفهوم تم التسويق له محليًا أولًا ثم عالميًا، فأصبح يروج لنفسه على أنه شخصية تاريخية أرسلها الرب لحماية الحضارة الغربية «الراقية» من الحضارة الإسلامية «الغوغائية»، وبالتالي، فإن «نتنياهو» يسعى إلى تأطير الصراع، ليس على أنه صراع فلسطينى - إسرائيلى أو حتى عربى - إسرائيلي، وإنما على أنه صراع حضارات بين الحضارة المسيحية - اليهودية من جهة والحضارة الإسلامية من جهة أخرى. ويروج لنفسه على أنه منقذ للحضارة المسيحية - اليهودية، ومؤسس لاستعادة هيبتها وسيطرتها الروحانية على أسس من الكتاب المقدس للمسيحيين واليهود.

وفيما يخص انعكاس خطاب «نتنياهو»، على العلاقات الدولية، خصوصًا فى الغرب والمنظومة المسيحية الإنجيلية، أوضح «الشرقاوي»، أن هناك إيمانا لدى الإنجيليين الأمريكيين، بل وأغلب الأمريكيين العاديين، بفكرة مثل: «من يعارض إسرائيل ملعون»، وهذا له أثر بالغ على تحرك الولايات المتحدة فى الساحة الدولية، وعلى التحالفات التى تشكلها وضغوطها التى تمارسها لصالح إسرائيل، وإن كانت هذه التحركات بالطبع لا تخلو من تطلعات استعمارية تستند إلى نفس وجهة النظر الدينية، التى ترى أن الرب قد جعل أغلب ثروات العالم فى منطقة الشرق الأوسط، وأن العالم المسيحى الغربى أحق بها، حتى لو كان الثمن إبادة العالم العربى أو الإسلامي، وليس الفلسطينيون فحسب، ويمكن أن نتحقق من هذا من خلال وصف بعض النواب الأمريكيين للفلسطينيين بأنهم «حيوانات»، انسياقًا خلف وصف الإسرائيليين لهم، وهو وصف سينسحب على العرب جميعًا فى المرحلة التالية التى تسعى فيها إسرائيل إلى التوسع القادم للدولة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة