بعيدا عن الاعتبارات العملية، التى قيلت وتُقال، وهى عديدة وصحيحة، لكن هناك معنى أهم وأعمق، يتجاوز ضرورات تجنب الزحام وأزمات المرور، وتوفير الوقت وإخلاء الطرق لكثير من ضيوف حفل الافتتاح، هذا كله يمكن تدبيره، تجيد الأجهزة المعنية التعامل مع المواقف القريبة من هذا، ليست الإجازة مجرد يوم بلا عمل، يستريح فيه الناس من العناء، يقضون وقتا طيبا فى النوادى أو أمام شاشة التليفزيون فى البيوت، يمكن للموظف أن يحصل على إجازة، والقانون كفل له ذلك، لكن للإجازة معنى خاصا فى الضمير والوجدان الجمعى المصرى، الإجازة الرسمية لدى المصريين تعنى ذكرى أو حدثا جليلا، موضع إجماع وطنى وقومى أو ضرورة دينية، ومن ثم فإن اعتبار يوم الافتتاح مناسبة وطنية كبرى، هو ما يستحق التوقف عنده والإشادة به، وأن يكون التوجيه بتلك الإجازة من فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فهذا يعنى أن الدولة تعتبر افتتاح المتحف الوطنى حدثا وطنيا، يستحق أن يكون إجازة، مثله بالضبط مثل يوم السادس من أكتوبر العظيم، وسائر الأعياد الوطنية والمناسبات القومية التى ترتبط بالوجدان المصرى.
والحق أن هذا الموقف يتسق تماما مع فلسفة الدولة وبناء الجمهورية الجديدة.. مرارًا وتكرارًا أكد الرئيس أننا نبنى الدولة الوطنية الحديثة.
الدولة تعنى فى المقام الأول أرضًا وحدودًا جغرافية واضحة ومعلنة، تجب صيانتها وحمايتها، تعنى الدولة كذلك ذاكرة وطنية، تحمل تاريخ وتراث هذا الوطن، وهنا نتبين أهمية التراث المصرى كله، وفى القلب منه آثارنا القديمة، التى تحمل ذاكرة وجهد هذا الشعب عبر التاريخ وإرثه الحضارى.. من هنا يأتى اهتمام الجمهورية الجديدة بإنشاء المتاحف، وفى المقدمة منها المتحف المصرى الكبير.
المتاحف ترتبط بالدولة الوطنية والقومية، خاصة فى مصر، قبل إنشاء الدولة الوطنية مع محمد على باشا، فمطلع القرن التاسع عشر لم تكن هناك متاحف، ولا كان هناك احترام وتقدير للآثار، لقرون عديدة كان يطلق عليها «المساخيط» وكان ينظر إليها شزرًا، باعتبارها أعمالًا تدخل فى عوالم الجان والشياطين.. لذا لم يكن هناك علم للآثار ولا اهتمام بالتنقيب عنها، ناهيك عن ترميمها، بل كانت تهدم لتستغل فى بنايات أخرى، كما حدث فى بناء سور مجرى العيون، حيث نُقلت حجارة الآثار من الجيزة إليها، وغير ذلك كثير، اعتداءات كثيرة تمت على الآثار فى قرون مضت.
الذاكرة والتاريخ والآثار جزء رئيس فى تكوين الدولة الوطنية، ويحلو للبعض أن يديروا الحياة وفق ثنائيات متضاربة ومتناقضة، من ذلك المفاضلة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة أو الخشنة، ومحاولة إزاحة إحداهما من المعادلة الوطنية، وكأن كلا منهما تنفى الأخرى، والحق أن العلاقة بين القوتين هى علاقة وجودية وتكاملية، وجود كل منهما يقتضى وجود الأخرى.. القوة الناعمة وحدها دون الصلبة، تصبح مهددة بالانهيار أو السرقة، والقوة الصلبة وحدها دون الناعمة تتحول إلى قوة عدوانية يمكن أن تهدد الجميع وتصبح مصدرًا للحروب وللعدوان.
والحق أن الدولة المصرية طوال الفترة الأخيرة منذ سنة 2014، وهى تعمل بدأب وتبذل جهدًا كبيرًا، لدعم وتقوية القوة الناعمة وكذلك تعظيم القوة الصلبة، وذلك هو الذى مكننا من الصمود فى مواجهة الإرهاب والانتصار عليه.
تجربتنا فى مواجهة الإرهاب والانتصار عليه كان نتيجة التضافر القوى والعميق بين القوتين الناعمة والصلبة، القوة الناعمة أثرت الوعى العام بمخاطر الإرهاب وفساد الأفكار التى بُنى عليها، الكشف عن ضلال وتهافت أفكار وضجيج الإرهابيين، خلق القوة الشعبية الضخمة التى ساندت جهود رجال الجيش ورجال الأمن فى مواجهة الإرهابيين، وتقديم أرواحهم دفاعًا عن استقرار وسلامة هذا المجتمع.
وإذا كان الإرهاب يستهدف عادة رجال الأمن ورجال الدولة، فإنه بنفس الدرجة يستهدف رموز القوة الناعمة من كبار المبدعين والكتاب إلى رجال الفن بمختلف فروعه. الحملات الضارية على طه حسين وأم كلثوم تؤكد ذلك المنحى، محاولة اغتيال نجيب محفوظ سنة 1944، ومن قبله اغتيال د. فرج فودة، فضلا عن محاولات أخرى عديدة لم يتم الإعلان عنها بعد، الإرهاب يستهدف الوطن بكل قواه، لذا يجب أن تتضافر كل القوى فى مواجهته، وهذا ما حدث عندنا.
القوة الناعمة شهدت فى السنوات الأخيرة، خاصة فى المجال المتحفى، تطورًا مذهلًا وجهدًا لم يتوقف، على كافة الأصعدة.
منذ عقود، كان هناك إحساس بأننا نحتاج إلى متحف جديد، غير متحف التحرير، الذى كان ضيق المساحة، لا يستوعب الكثير من القطع الأثرية، لذا كان معظمها فى المخازن، ثم أُضيف إلى ذلك زحام المنطقة وارتفاع معدلات التلوث الجوى بها، مما يهدد على المدى البعيد وجود القطع الأثرية. وفى يوم 28 يناير 2011، تعرض المتحف لمحاولات السرقة، واكتظاظ المنطقة بالسكان وبالمواطنين، كل هذه العوامل ليست مناسبة للمتحف، فضلًا عن أن مبنى المتحف المصرى فى التحرير لم يكن فى الأصل مبنى للمتحف، لكن كان مبنى فى الأصل لغرض آخر، أن يكون متحف الزعيم سعد زغلول، وفى اللحظات الأخيرة ولأسباب سياسية وحزبية آنذاك، تم التراجع عن أن يكون المبنى متحفا للزعيم، وتقرر أن يكون المتحف الوطنى الذى يضم آثارنا القديمة، وأدى دوره بكفاءة لفترة طويلة، لكن تطور القاهرة وازدياد التعلق بالحضارة المصرية استلزم وجود متحف جديد.
وفى سنة 2004، طرح وزير الثقافة فاروق حسنى فكرة إنشاء المتحف المصرى الكبير، لقيت الفكرة ترحيبًا من الجميع وبدأ العمل فى تقييم المشروع، ثم جاءت الظروف السياسية والاقتصادية على النحو المعروف فى مصر، فتجمدت الفكرة والمشروع حتى سنة 2014، إذ تقرر أن نشرع فى التنفيذ، وفى سنة 2015، بدأ العمل، وتم تدبير التمويل رغم ضخامته، وها نحن الآن بصدد الاستعداد للافتتاح الكبير.
تحويل يوم الافتتاح إلى «إجازة رسمية» هو خطوة جبارة فى طريق بناء الذاكرة الوطنية، وتحويل الوعى بتاريخنا وحضارتنا إلى مكون مهم وبارز فى الثقافة العامة والسلوك اليومى. لفترات طويلة تعاملنا مع المتحف المصرى باعتباره مكانا مخصصا بالدرجة الأولى للسياح والأجانب، يستمتعون به ويدرّ علينا عائدا ماليا، وعلى مستوانا المحلى تعاملنا مع المتحف باعتباره مكانا للترفيه وللمتعة، فى رحلة مدرسية أو جامعية أو زيارة عابرة للأسرة، لكن لم نتعامل معه فى حالات كثيرة باعتباره إحدى القلاع الوطنية لهذا البلد، وإحدى علاماته البارزة.
التعامل مع الآثار بخفة واعتبارها فقط مصدرا للعملة الصعبة والثراء هو الذى فتح الباب واسعًا أمام البعض لأعمال التنقيب والحفر أسفل البيوت، حتى لو أدى إلى انهيارها على رءوس مَن فيها للبحث عن قطعة أثرية يتم بيعها فى السوق السوداء ثم تهريبها، وآن الأوان لهذه النظرة أن تتغير وأن تختفى تماما، لن يتأتى ذلك بجهد مباحث الآثار وحدها ورجال الأمن، القضية بالأساس ثقافية وحضارية، يجب أن يثبت فى ثقافة وضمير الجميع أن الآثار جزء ومكون عزيز من مكونات هذا الوطن، عند ذلك سوف يختلف التعامل وتتراجع مقولة إنها قطع موجودة فى الأرض، من حق أى إنسان يصل إليها، يتصرف فيها كيف يشاء، حتى لو كان تهريبها إلى الخارج، وهذا ما يحدث فى عديد من الحالات.
ولعلها مصادفة سعيدة أو هى توافق الأحداث أن يأتى افتتاح المتحف متزامنا مع تولى أثرى مصرى، وأحد الذين عملوا بجد فى تأسيس المتحف، هو د. خالد العنانى، مسئولية منظمة اليونسكو، وأن تكون آثار العالم وتراثه فى رعاية عالم مصرى من خلال المنظمة الدولية.
يضم المتحف مائة ألف قطعة، ويعرض فيه لأول مرة المجموعة الأثرية الكاملة للملك توت عنخ آمون، وهكذا فإن يوما واحدا لن يكون كافيا للاستمتاع بالمتحف والقطع التى فيه، وتشرح للعالم دور مصر الحضارى فى العالم القديم، ويتواصل هذا الدور إلى يومنا هذا، عبر المراحل التاريخية المختلفة.
طوال عدة عقود، شغل بعض المفكرين فى تحديد الهوية المصرية، من أين تبدأ، ومتى، وما طبيعتها، وأظن أن افتتاح المتحف الكبير، وعرض مائة ألف قطعة أثرية، يمكن أن يضع أيدينا على الجذور المصرية وهويتها، دراسة الآثار جيدا وما تنطق به على مستوى النحت أو فن التحنيط والمقاييس الهندسية لكل قطعة، والأوانى المستحدثة كلها تكشف الجذور الثقافية لمصر، الأهم من ذلك أن تلك القطع تثبت نهائيا أن البعد الثقافى والحضارى فى الشخصية المصرية لم يكن يوما مجرد ديكور ولا وجاهة، بل هو مكون عميق ورئيسى فى بناء الشخصية.
فكرة الضمير الإنسانى وُلدت هنا، وفكرة العدل والتوحيد برزت هنا، وحينما نرى الجهد المصرى الجبار، الذى بذلته الدولة منذ يوم السابع من أكتوبر 23 وحتى يومنا هذا، فإن الالتزام الوطنى والأخلاقى الذى أخذته مصر على عاتقها تجاه القضية الفلسطينية لم يولد من فراغ ولم يأتِ اعتباطًا ولا هو مصادفة، وليس ضرورة عملية ترتبط بالوضع على حدودنا فقط، بل جين حضارى فى الشخصية المصرية.
افتتاح المتحف ليس حدثا ثقافيا وأثريا فقط، بل هو حدث وطنى فى المقام الأول؛ سياسى واقتصادى واجتماعى.
رسالة الدولة واضحة أن القوة الناعمة، ليست رفاهية ولا هى مظهر أو وجاهة اجتماعية وسياسية، بل قوة فاعلة فى بناء الهوية الوطنية ومن ثم فى وجود الدولة، دورها وقوتها.
هناك مؤشرات أخرى كثيرة وعديدة مثل المساندة الضخمة التى بذلتها الدولة المصرية للمرشح المصرى فى اليونسكو، حتى فاز بأغلبية غير مسبوقة، بناء متاحف أخرى عديدة وإعادة تأهيل متاحف قديمة.. كل ذلك مؤشر واضح على نهج الدولة فى أن تكون قوية، تؤدى دورها فى المنطقة وفى العالم كله، لن تكون الدولة قوية ومؤثرة دون الجناحين معا، القوة الناعمة، والقوة الصلبة أو الخشنة.
بين حين وآخر، يبدى البعض قلقهم على القوة الناعمة ومدى اهتمام واحتفاء الدولة بها، الدستور يتحدث بوضوح عن مكانة ودور الثقافة وحق الإنسان المصرى فى الثقافة والاستمتاع بالآثار، فضلا عن وجوب الاهتمام بها والحفاظ عليها، ورغم هذا فإن التساؤلات لا تتوقف، وهذا مشروع ولا غضاضة فيه، المهم أن الدولة تقدم باستمرار ما يؤكد ذلك الاهتمام والاحتفاء.. المتحف المصرى الكبير مؤشر عظيم فى هذا الاتجاه، ليس هو الأول فى الإنجازات ولن يكون الأخير، لكنه الأكثر أهمية وبروزًا.
أحيانا تستغرقنا بعض الهموم والمشكلات، ومن شدة الإلحاح عليها يظهر إلى العالم أن ذلك هو حجم مصر، لكن المتحف الكبير تذكرة للعالم كله بقيمة مصر ومكانتها ودورها.
العلاقة المتنامية بين مصر والاتحاد الأوروبى، والتى تُوجت بزيارة الرئيس السيسى إلى بروكسل الأسبوع الماضى، وتترأس مصر القمة المصرية الأوروبية، هذا التطور فى العلاقات الأوروبية المصرية، ليس بعيدا عن مكانة مصر ودورها، ولا عن المتحف المصرى الكبير.