رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الوصفة المثيرة للجدل «مصر وصندوق النقد 1»


25-9-2025 | 17:37

.

طباعة
بقلـم: د. محمد فؤاد

كلما ذُكر اسم صندوق النقد الدولى فى مصر انقسم الناس بين منْ يراه خشبة خلاص لا غنى عنها لإنقاذ الاقتصاد، وبين منْ يعتبره أداة استعمارية حديثة لا تحمل إلا الخراب والفقر، وما بين خطاب شعبى يراه صلب الأزمة، ورؤية رسمية تقدّمه كمنقذ لا بديل عنه، ظلّت تجربة مصر مع الصندوق منذ التسعينيات ساحة مفتوحة للجدل، ومن هنا تأتى هذه السلسلة فى ثلاث حلقات؛ لتعيد قراءة المحطات الكبرى فى العلاقة بين مصر والصندوق.

التجربة الأولى: مصر وصندوق النقد فى التسعينيات

كثيرًا ما يوصَف صندوق النقد الدولى فى المخيلة العامة المصرية بأنه «صندوق النكد»، وتُتهم برامجه بأنها وصفات للخراب أينما حلت، يردد الناس أن تجارب الصندوق باءت بالفشل فى كل الدول، وكأن الأمر حقيقة ثابتة لا تحتاج إلى تمحيص، غير أن قراءة متأنية للتجربة المصرية فى التسعينيات تكشف أن الصورة ليست بتلك البساطة.

بدأت العلاقة بين مصر والصندوق فى وقت مبكر، لكنها بلغت ذروتها فى أوائل التسعينيات مع ما سُمّى برنامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلي، وهو البرنامج الذى أنقذ مصر من انهيار محقق، لكنه فى الوقت نفسه فتح بابًا لجدل لم يُغلق حتى اليوم.

ففى أواخر الثمانينيات، كان الاقتصاد المصرى يعيش أزمة حادة من كل جانب، فقد ارتفع الدين الخارجى إلى نحو سبعة وأربعين مليار دولار عام 1990، أى ما يعادل أكثر من الناتج المحلى الإجمالى بأكمله، كما كانت المالية العامة فى حالة هشاشة بالغة؛ إذ تجاوز عجز الموازنة خمسة عشر فى المائة من الناتج.

التضخم بدوره كان يلتهم دخول الناس بمعدلات تفوق العشرين فى المائة، بينما القطاع العام المتضخم والفاقد للكفاءة يستنزف موارد البلاد دون أن يقدم مردودًا حقيقيًا، وعلى الجانب الخارجي، عانى ميزان المدفوعات من عجز متكرر يعكس ضعف القدرة التصديرية والاعتماد المفرط على تحويلات المصريين فى الخارج والمساعدات.. كان المشهد أقرب إلى انسداد كامل فى الأفق، ما جعل خيار اللجوء إلى الصندوق أشبه بالعملية الجراحية التى لا مفر منها.

وفى عام 1991، وقّعت مصر اتفاقًا مع الصندوق والبنك الدولى لتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادى عُرف باسم «برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي»، وقد كان الهدف واضحًا ومحددا وهو إعادة الاستقرار الكلى عبر كبح التضخم، وتخفيض العجز، وضبط ميزان المدفوعات.

ولتحقيق ذلك، لجأت الدولة إلى أدوات قاسية، من سياسة نقدية متشددة ترفع أسعار الفائدة وتحد من نمو السيولة، وسياسة مالية تعتمد على خفض الإنفاق العام وتقليص الدعم، وأيضا تحرير تدريجى لسعر الصرف بعد سنوات من الجمود، وكذا فتح أكبر للأسواق عبر تخفيض الرسوم الجمركية وإلغاء القيود الكمية، وأخيرًا برنامج خصخصة يستهدف تقليص دور القطاع العام.

فى الوقت نفسه، حصلت مصر على مكاسب مهمة من الخارج؛ إذ أعاد الدائنون فى نادى باريس هيكلة الديون ومنحوا البلاد إعفاءات سخية تقديرًا لدورها فى حرب تحرير الكويت.

النتائج جاءت سريعة وملموسة، فخلال خمس سنوات فقط، تبدلت المؤشرات الكلية بصورة لافتة، إذ انخفض التضخم من أكثر من واحد وعشرين فى المائة إلى أقل من سبعة فى المائة، وتقلص العجز المالى من أكثر من خمسة عشر فى المائة إلى قرابة اثنين فى المائة من الناتج المحلى.

أيضا الدين الخارجى نفسه قد تراجع من سبعة وأربعين مليارًا إلى نحو أربعة وثلاثين مليار دولار، أما النمو الاقتصادي، فقد تحرك من حالة ركود إلى متوسط بلغ أربعة إلى خمسة فى المائة سنويًا، فى حين ارتفعت الاحتياطيات الأجنبية لأول مرة إلى مستويات مريحة دعمت استقرار سعر الصرف.. إذن على الورق، كانت الوصفة ناجحة، إذ انتقل الاقتصاد من حافة الانهيار إلى حالة من الانضباط المالى والنقدى.

لكن الصورة لم تقتصر على الأرقام الجافة، فمنتصف التسعينيات شهد بالفعل ما يشبه انطلاقة اقتصادية واعدة، ومع استقرار التضخم وتراجع العجز، عادت الثقة تدريجيًا، وبدأت رءوس الأموال الأجنبية فى التدفق بمعدل لم تعرفه مصر منذ السبعينيات، كما شهد الاستثمار الخاص انتعاشة ملحوظة، مدفوعًا ببيئة أكثر استقرارًا.

فى تلك المرحلة، برز فريق اقتصادى شاب يمتلك رؤية واضحة، من أبرز رموزه يوسف بطرس غالى ومحمود محيى الدين، اللذان لعبا أدوارًا محورية فى رسم السياسات المالية وإدارة ملفات الخصخصة والاستثمار، إذ استطاع هذا الفريق أن يحول حالة «الانضباط المالي» إلى حركة إصلاحية أوسع، فتسارعت خطوات الانفتاح المالى والتجاري، وبدأت صورة جديدة عن الإدارة الاقتصادية المصرية تتشكل.

اللافت أن معدلات النمو فى تلك الفترة اقتربت من ستة فى المائة سنويًا، وهى من أعلى المستويات التى عرفتها مصر حتى ذلك الحين، وكان ذلك ثمرة تلاقى ثلاثة عناصر رئيسية هى استقرار الاقتصاد الكلى بعد سنوات من الاضطراب، وتطبيق إصلاحات هيكلية ولو جزئية بكفاءة نسبية، وبالأخص قيادة فريق اقتصادى نشيط تمكن من ربط الداخل بالتحولات الجارية عالميًا، وبدا وكأن مصر على أعتاب نقلة نوعية، خاصة مع بروز جيل من المسئولين الاقتصاديين يملكون طموحًا للاندماج فى الاقتصاد العالمى على نحو أوسع.

غير أن هذا النجاح لم يكن كاملًا، فمعالجة الأرقام لم تعنِ بالضرورة معالجة المشكلات البنيوية، حيث ارتفعت البطالة بفعل تقليص الإنفاق الحكومي، وبقيت الخصخصة محدودة فى نتائجها مقارنة بما أثير حولها من جدل سياسى واجتماعي، وأيضا النمو الصناعى لم يتحقق بالوتيرة المطلوبة، إذ ظل الاقتصاد يعتمد على موارد خارجية استثنائية مثل تحويلات العاملين والإعفاءات من الديون أكثر من اعتماده على قاعدة إنتاجية صلبة، أما العدالة الاجتماعية، فلم تكن ضمن أولويات البرنامج، ما أبقى مسألة الفقر وتوزيع الدخل دون حل حقيقى.

إذن، هل كان البرنامج خرابًا كما يشيع فى الخطاب الشعبي؟.. الحقيقة أنه لم يكن كذلك، بل يمكن القول إنه أنقذ الاقتصاد المصرى من انهيار وشيك، وأعاد للدولة القدرة على السيطرة على أرقامها الأساسية، لكنه فى الوقت نفسه لم ينجح فى إحداث التحول التنموى الشامل الذى كانت البلاد فى أمسّ الحاجة إليه، فقد وفّر الاستقرار، لكنه لم يضمن الإقلاع.. أوقف النزيف، لكنه لم يحقق التعافى الكامل .

من هذه التجربة يمكن استخلاص ثلاثة دروس أساسية، أولها أن برامج الصندوق قادرة على إصلاح الأرقام لكنها لا تبنى التنمية بمفردها، وثانيها أن نجاح التجربة المصرية فى التسعينيات ارتبط بعوامل خارجية استثنائية، أهمها إعفاء الديون بعد حرب الخليج، وهو ما لا يتكرر بسهولة، والثالث أن الاستقرار المالى شرط لازم لكنه غير كافٍ لتحقيق التنمية، إذ يحتاج إلى استكمال بإصلاحات إنتاجية وهيكلية تعالج جوهر الاختلالات.

لقد كان برنامج التسعينيات بمثابة عملية جراحية ناجحة أنقذت المريض من الموت، بل فتحت الباب أمام انطلاقة اقتصادية حقيقية بفضل فريق اقتصادى متمكن، لكنه لم يكن علاجًا كاملًا للمرض المزمن الذى يعانيه الاقتصاد المصري، وللأسف هذه المفارقة سترافق علاقة مصر بالصندوق فى كل محطة لاحقة.

فى المقال القادم من هذه السلسلة، سننتقل إلى تجربة التعويم الكامل عام 2016، لنقارن كيف اختلفت السياقات وكيف انعكست الوصفة المثيرة للجدل مرة أخرى على مسار الاقتصاد المصرى.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة